• youtube
  • twitter
  • google plus icon
  • facebook
  • logo linkedin

لغز رأس المال

هيرناندو دى سوتو

الفصل الأول: أسرار رأس المال الخمسة

إن المشكلة الأساسية هى التوصل إلى السبب فى أن هذا القطاع من مجتمع الماضى، الذى لن أتردد فى أن أدعوه بالرأسمالى، كان لابد وأن يعيش فى ناقوس زجاجى، معزولا عن الباقى حوله، والسبب فى أنه لم يكن يستطيع التوسع ويغزو المجتمع كله ؟ … (ما هو السبب) فى أن معدلا كبيرا من تكوين رأس المال لم يكن ممكنا إلا فى قطاعات معينة، وليس فى كل اقتصاد السوق فى ذلك العصر ؟

ـ فيرناند برودل، " عجلات التجارة "

bell jar mena

إن اللحظة التى تحقق فيها أكبر انتصار للرأسمالية هى لحظة أزمتها. فقد أنهى سقوط سور برلين ما يزيد على قرن من المنافسة السياسية بين الرأسمالية والشيوعية. وبرزت الرأسمالية وحدها باعتبارها الطريق العملى الوحيد لتنظيم اقتصاد حديث على نحو رشيد. وفى هذه اللحظة من التاريخ، لم يكن هناك خيار لأى دولة مسؤولة، ونتيجة لذلك، وبدرجات متباينة من الحماس، حققت بلدان العالم الثالث، والبلدان الشيوعية السابقة توازن ميزانياتها، وخفضت الدعم، ورحبت بالاستثمار الأجنبى، وقللت حواجزها الجمركية

وكانت ثمرة جهودها خيبة أمل مريرة. فمن روسيا إلى فنزويلا، كان نصف العقد الماضى زمنا للمعاناة الاقتصادية، والدخول المنهارة، والقلق، والسخط؛ زمنا " من الموت جوعا وأعمال الشغب والسلب "، على حد تعبير الكلمات القارصة لمحاضر محمد رئيس وزراء ماليزيا. وقد ذكرت " النيويورك تايمز " فى افتتاحية أخيرة لها أنه " فى كثير من أنحاء العالم، تم فرض قيام السوق الذى مجده الغرب فى زهو الانتصار فى الحرب الباردة، مع ما صحب ذلك من قسوة الأسواق، وحذر من الرأسمالية، ومخاطر عدم الاستقرار ". إن انتصار الرأسمالية فى الغرب وحده يمكن اعتباره طريقا لوقوع كارثة اقتصادية وسياسية

وبالنسبة للأمريكيين الذين يتمتعون بالسلام والازدهار على حد سواء، كان من السهل تماما تجاهل الاضطرابات التى تحدث فى أماكن أخرى، فكيف تعانى الرأسمالية متاعب فى الوقت الذى يتصاعد فيه مؤشر داو جونز الصناعى بقدر يفوق مؤشر سير ادموند هيلارى ؟ إن الأمريكيين ينظرون إلى الدول الأخرى ويرون أنها تحقق تقدما، حتى وإن كان بطيئا وغير متكافئ. ألا تستطيع أن تأكل سندوتشات " بيج ماك " فى موسكو، وتستأجر شريط فيديو من " بلوكباستر " فى شنغهاى، وأن تتصل بالإنترنت فى كاراكاس ؟

ومع ذلك، فحتى فى الولايات المتحدة، لا يمكن تبديد الهواجس كلية، فالأمريكيون يرون أن كولومبيا تقف على شفا حرب أهلية كبرى بين عصابات مهربى المخدرات، والميليشيات الساعية لقمعها، وأن هناك عصيانا مستعصيا على الحل فى جنوب المكسيك، وأن جزءا مهما من النمو الاقتصادى المفروض بالقوة فى آسيا يستنزفه الفساد والفوضى. وفى أمريكا اللاتينية، يضمحل التعاطف مع الأسواق الحرة : فقد انخفض التأييد للخصخصة من 46 فى المائة من السكان إلى 36 فى المائة فى مايو 2000. ومما ينذر بشر مستطير أكبر، أنه تبين أن الرأسمالية غائبة فى البلدان الشيوعية السابقة، وأن الأشخاص المرتبطين بالنظم القديمة متأهبون لتولى السلطة. ويعتقد بعض الأمريكيين أيضا أن من أسباب ازدهارهم الذى استمر عقدا من الزمان هو أنه كلما بدأ باقى العالم أكثر تقلقلا، زادت جاذبية الأوراق المالية والسندات الأمريكية كملاذ آمن للنقد الدولى.

ويثور فى مجتمع الأعمال فى الغرب، قلق متزايد من أن فشل باقى العالم فى إقامة الرأسمالية سيدفع فى نهاية الأمر الاقتصادات الغنية إلى الكساد. وإن يستخلص الملايين من المستثمرين دروسا مؤلمة من تبخر أموالهم فى الأسواق الناشئة، تغدو العولمة طريقا مزدوج المسار: فإن لم تستطع بلدان العالم الثالث والبلدان الشيوعية السابقة الإفلات من تأثير الغرب، فإن الغرب نفسه لا يستطيع أن يعزل نفسه عنها. كما طفقت ردود الأفعال السلبية تجاه الرأسمالية تزداد قوة فى البلدان الغنية نفسها. وتلقى أعمال الشغب التى وقعت فى سياتل فى اجتماع منظمة التجارة العالمية فى ديسمبر 1999، وبعد ذلك ببضعة شهور فى أثناء اجتماع صندوق النقد الدولى، والبنك الدولى فى واشنطن العاصمة، بغض النظر عن تباين الشكاوى، الضوء على الغضب الذى تثيره الرأسمالية الآخذة فى الانتشار. وبدأ كثيرون يتذكرون تحذيرات المؤرخ الاقتصادى كارل بولاناى من أن الأسواق الحرة قد تتعارض مع مصلحة المجتمع وتؤدى إلى الفاشية. وتصارع اليابان من خلال أطول هبوط شهدته منذ الكساد الكبير ". ويقترع الناس فى أوروبا الغربية لصالح السياسيين الذى يعدونهم " بطريق ثالث "، الذى يرفض ما أسماه واحد من أكثر الكتب الفرنسية مبيعا " الرعب الاقتصادى ."

وحتى الآن لم تؤد همسات التحذير هذه، وإن كانت تدعو للقلق، إلا إلى حث القادة الأمريكيين والأوروبيين على أن يكرروا على مسامع باقى العالم نفس المحاضرة المملة: ثبتوا عملاتكم، تشددوا، تجاهلوا أعمال الشغب المطالبة بالطعام، وانتظروا فى أناة أن يعود المستثمرون الأجانب.

 

بالطبع إن الاستثمار الأجنبى أمر طيب للغاية. وكلما زاد، كان ذلك أفضل. والعملات المستقرة أمر طيب، هى أيضا، مثلها مثل التجارة الحرة والممارسات المصرفية الشفافة وخصخصة الصناعات المملكوة للدولة وكل علاج آخر فى مجموعة الأدوية الغربية. ومع ذلك، فنحن ننسى باستمرار أن الرأسمالية العالمية قد اختبرت من قبل. ففى أمريكا اللاتينية مثلا، جربت الإصلاحات الرامية لإقامة نظم رأسمالية أربع مرات على الأقل منذ الاستقلال عن أسبانيا فى عشرينيات القرن التاسع عشر. وفى كل مرة، وبعد نوبة الحماس الأولى، ارتد أهل أمريكا اللاتينية عن السياسات الرأسمالية وسياسات اقتصاد السوق. ومن الواضح أن هذا العلاج غير كاف، والواقع أنه قاصر لحد أن يصبح بغير معنى.

وعندما يفشل هذا العلاج، فإن رد فعل الغربيين عادة لا يتمثل فى التساؤل عن مدى كفاية العلاج المقترح وإنما فى إلقاء اللوم على شعوب العالم الثالث، ويتهمونهم بالافتقار إلى القدرة على تنظيم المشروعات وروحها والتوجه نحو السوق. فإن أخفقوا فى تحقيق الإزدهار رغم ما يقدم لهم من نصائح رائعة، فإن ذلك يعود لعيب أساسى فيهم : الافتقار إلى " الإصلاح البروتستانتى "، أو أن الميراث الذى يكبلهم والذى ورثوه عن أوروبا الاستعمارية يقعدهم عن الحركة، أو أن معدل ذكائهم جد منخفض. لكن القول بأن الثقافة هى التى تفسر نجاح أماكن جد مختلفة مثل اليابان وسويسرا وكاليفورنيا، وأن الثقافة أيضا هى التى تفسر الفقر النسبى لأماكن متباينة بالمثل كالصين، وإستونيا، وباجا كاليفورنيا، هو قول غير إنسانى بل أسوأ من ذلك، وهو قول غير مقنع. إن التباين فى الثروة بين الغرب وباقى العالم أكبر كثيرا من أن تفسره الثقافة وحدها. فمعظم الناس يريدون ثمار رأس المال ـ لدرجة أن كثيرين. إبتداء من أبناء سانشيز إلى ابن خروشوف، يندفعون أفواجا للبلدان الغربية.

إن مدن بلدان العالم الثالث والبلدان الشيوعية السابقة تعج بمنظمى المشروعات. فلا يمكنك أن تتجول فى سوق فى الشرق الأوسط، أو تمضى فى نزهة إلى قرية فى أمريكا اللاتينية، أو تركب سيارة أجرة فى موسكو دون أن يحاول شخص ما أن يبرم صفقة معك. إن سكان هذه البلدان يملكون الموهبة والحماس والقدرة المذهلة على اعتصار الربح من لا شئ عمليا. وفى مقدورهم استيعاب التكنولوجيا الحديثة واستخدامها. وفى غير هذا، لم تكن دوائر الأعمال الأمريكية لتجاهد للسيطرة على الاستخدام غير المرخص به لبراءات الاختراع التى تملكها فى الخارج، ولم تكن حكومة الولايات المتحدة لتصارع بصورة يائسة للإبقاء على تكنولوجيا الأسلحة الحديثة بعيدا عن متناول أيدى بلدان العالم الثالث. إن الأسواق تقليد قديم وعالمى : فقد طرد السيد المسيح التجار من المعبد قبل ألفى عام، وكان المكسيكيون يذهبون بمنتجاتهم إلى السوق قبل وصول كولمبس لأمريكا بزمن طويل.

ولكن إذا لم يكن الناس فى البلدان التى تحقق الانتقال إلى الرأسمالية، شحاذين جديرين بالشفقة، وإن لم يكونوا قد وقعوا فى إسار الطرق المتقادمة بصورة لا أمل فيها، وإن لم يكونوا أسرى ثقافات عجزت عن أداء مهامها بحيث لا ينتقدونها، فما الذى يحول دون أن تقدم لهم الرأسمالية نفس الثروة التى قدمتها للغرب ؟ لماذا تزدهر الرأسمالية فى الغرب وحده، كما لو كانت قد غلفت بناقوس زجاجى ؟

اعتزم فى هذا الكتاب أن أبين أن حجر العثرة الأساسى الذى يحول دون استفادة باقى العالم من الرأسمالية يتمثل فى عجزه عن إنتاج رأس المال. فرأس المال هو القوة التى تزيد إنتاجية العمل وتخلق ثروة الأمم. إنه شريان الحياة بالنسبة للنظام الرأسمالى، أساس التقدم، والشىء الذى يبدو أن بلدان العالم الفقيرة لا تستطيع أن تنتجه لنفسها، مهما كان الحماس الذى تنخرط به شعوبها فى كل الأنشطة الأخرى التى تميز الاقتصاد الرأسمالى.

كما سأبين، بمساعدة الحقائق والأرقام التى جمعها فريق البحث المعاون لى، من حى سكنى بعد آخر، ومن مزرعة تعد مزرعة فى آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية، أن معظم الفقراء يملكون بالفعل الأصول التى يحتاجونها لتحقيق نجاح الرأسمالية. ذلك أن الفقراء يدخرون حتى فى أكثر البلدان فقرا. إن قيمة المدخرات لدى الفقراء، هائلة فى الواقع ـ أربعون مثل كافة المعونات الأجنبية التى تم تلقيها فى كافة أنحاء العالم منذ 1945. ففى مصر مثلا، تساوى الثروة التى تراكمت لدى الفقراء خمسة وخمسين مثل مبلغ كافة الاستثمارات الأجنبية المباشرة التى سجلت فيها، بما فى ذلك قناة السويس وسد أسوان. وفى هاييتى، وهى أفقر بلد فى أمريكا اللاتينية، يزيد مجموع الأصول لدى الفقراء على مائة وخمسين مثل كافة الاستثمارات الأجنبية المتلقاة منذ استقلال هاييتى عن فرنسا فى 1804. ولو كانت الولايات المتحدة قد رفعت ميزانية المعونة الخارجية التى تقدمها إلى المستوى الذى أوصت به الأمم المتحدة ـ 0.7 فى المائة من الدخل القومى ـ لاستغرق الأمر من أغنى بلد فى العالم أكثر من 150 سنة لتحول لفقراء العالم موارد تساوى تلك التى يملكونها فعلا.

لكنهم يحتفظون بهذه الأصول فى شكل معيب : بيوت بنيت على أراض ملكيتها ليست مسجلة بالشكل السليم، ودور أعمال لا تأخذ شكل الشركات ومسؤوليتها غير محددة، وصناعات قائمة حيث لا يستطيع الممولون والمستثمرون رؤيتها. ونظرا لأن الحقوق فى هذه الممتلكات ليست موثقة على النحو السليم، فإن هذه الأصول لا يمكن تحويلها بسهولة إلى رأس مال، ولا يمكن مبادلتها خارج الدوائر المحلية الضيقة التى يعرف الناس فيها بعضهم ويثقون فى بعضهم البعض، ولا يمكن استخدامها كرهن لضمان القروض، ولا يمكن استخدامها كحصة فى استثمار ما.

 

وعلى العكس من ذلك فى الغرب، فإن كل قطعة أرض، وكل بناية، وكل قطعة من المعدات، أو مخزن للموجودات، تمثلها وثيقة للملكية تشكل دليلا مرئيا على عملية مستترة شاسعة تربط كل هذه الأصول بباقى الاقتصاد. وبفضل هذه العملية الوصفية التمثيلية، فإن الأصول يمكن أن تكتسب حياة غير مرئية موازية إلى جانب وجودها المادى. إذ يمكن استخدامها كرهن ضمان لائتمان ما. إن أهم مصدر وحيد للأموال بالنسبة لمشروعات الأعمال الجديدة فى الولايات المتحدة هو الرهن على مؤسسات منظمى المشروعات. ويمكن لهذه الأصول أيضا أن توفر رابطة بتاريخ المالك الائتمانى، وعنوان مختار خاضع للمساءلة لتحصيل الديون والضرائب، وأساس لإقامة مرافق عامة يعول عليها وشاملة، وأساس لإنشاء الأوراق المالية (مثل السندات المستندة إلى رهن) والتى يمكن عندئذ إعادة خصمها وبيعها فى الأسواق الثانوية وبهذه العملية يبعث الغرب أنفاس الحياة فى الأصول ويجعلها تولد رأس المال.

ولا تتوافر لبلدان العالم الثالث والبلدان الشيوعية السابقة هذه العملية الوصفية التمثيلية. ومن جراء ذلك، فإن معظمها يشكو من نقص الرسملة، بنفس الطريقة التى تعانى بها شركة ما من نقص الرسملة عندما تصدر أوراقا مالية أقل مما يبرره دخلها وأصولها. إن مشروعات الفقراء تشبه كثيرا الشركات التى لا تستطيع أن تصدر أسمها أو سندات للحصول على استثمار وتمويل جديدين. ذلك أنه بدون توافر الوصف التمثيلى، تعد أصولها رأسمالا ميتا غير منتج.

إن لدى سكان هذه البلدان من الفقراء ـ وهم خمسة أسداس البشرية ـ أشياء يملكونها، لكنهم يفتقرون إلى العملية التى تصف وتمثل ملكيتهم وتخلق رأس المال. ذلك أن لديهم بيوتا، لكن ليس لديهم سندات حقوق ملكية؛ لديهم محاصيل لكن ليس لديهم صكوك ملكية؛ ولديهم دور أعمال لكن ليس لديهم النظام الأساسى للشركات. إن عدم توافر هذه الأنواع الأساسية من الوصف والتمثيل هو الذى يفسر السبب فى أن الناس الذين طوعوا كل الاختراعات الغربية الأخرى، من مشبك الورق إلى المفاعل النووى، لم يستطيعوا أن ينتجوا ما يكفى من رأس المال لجعل رأسماليتهم المحلية تثمر.

ذلك هو سر رأس المال. ويتطلب حله فهم السبب فى أن الغربيين استطاعوا عن طريق وصف وتمثيل الأصول بسندات ملكية، أن يروا فيها رأس المال وأن يستخلصوه منها. إن من أكبر التحديات التى تواجه العقل البشرى فهم، والوصول إلى، الأشياء التى نعرف أنها موجودة ولا نستطيع أن نراها. ليس كل ما هو حقيقى ومفيد، ملموس ومرئى. فالزمن مثلا حقيقى، ولكن لا يمكن إدارته بصورة كفء إلا عندما تمثله الساعة والتقويم الزمنى. وعلى مر التاريخ، اخترع البشر أنظمة وصفية تمثيلية ـ الكتابة، النوتة الموسيقية، إمساك الدفاتر ذات القيد المزدوج ـ ليدركوا بالعقل ما لا يمكن لأيدى البشر أن تلمسه أبدا. وبنفس الطريقة، فإن الممارسين العظام للرأسمالية، من منشئى نظم سندات الملكية المتكاملة وأسهم الشركات إلى مايكل ميلكن، استطاعوا أن يكتشفوا رأس المال وأن يستخلصوه، حيث لم ير الآخرون فيه سوى سقط المتاع، وذلك باستنباط طرق جديدة تمثل الإمكانات غير المرئية المخبوءة فى الأصول التى نراكمها.

وفى نفس هذه اللحظة التى تحيط بك فيها موجات التليفزيون الأوكرانى والصينى والبرازيلى التى لا تستطيع أن تراها، تحيط بك أيضا أصول تخفى رأسمالا على نحو غير مرئى. وتماما مثلما أن موجات التليفزيون الأوكرانى الأضعف كثيرا من أن تجعلك تشعر بها بصورة مباشرة، يمكن فك شفرتها بمساعدة أجهزة تليفزيونية ورؤيتها وسماعها، فإن رأس المال يمكن استخلاصه ومعالجته من الأصول. لكن الغرب وحده لديه عملية التحويل المطلوبة لجعل غير المرئى مرئيا. وهذا التباين هو الذى يفسر السبب فى أن الدول الغربية تستطيع أن تخلق رأس المال، وأن بلدان العالم الثالث، والبلدان الشيوعية السابقة لا تستطيع ذلك.

إن غياب هذه العملية فى المناطق الأفقر فى العالم ـ حيث يعيش ثلثا البشر ـ ليس نتيجة نوع من المؤامرة الاحتكارية الغربية، بل الأحرى أن الغربيين اعتبروا هذه الآلية أمرا مسلما به بصورة كاملة إلى حد أنهم فقدوا الوعى بوجودها. ورغم ضخامتها، فإن أحدا لا يراها، بما فى ذلك الأمريكيون والأوروبيون واليابانيون الذى يدينون بكل ثروتهم إلى قدرتهم على استخدامها. إنها بنية أساسية قانونية ضمنية مخبوءة فى أعماق نظم الملكية لديهم ـ لا تمثل الملكية فيها سوى قمة جبل الجليد. ويتمثل باقى جبل الجليد فى عملية معدة من صنع الإنسان يمكنها تحويل الأصول والعمل إلى رأس مال. ولم يتم خلق هذه العملية من طبعة أصلية، ولا يرد وصفها فى الكتيبات المصقولة. فأصولها غامضة ودلالتها مطمورة فى اللاوعى الاقتصادى للبلدان الرأسمالية الغربية.

كيف يغيب عن ذهننا شىء بهذه الأهمية ؟ ليس من غير الشائع بالنسبة لنا معرفة كيفية استخدام الأشياء دون فهم السبب فى أنها تجدى. فقد استخدم البحارة البوصلة المغناطيسية قبل زمن طويل من اكتشاف نظرية مرضية عن المغناطيسية.

وتوافرت لمربى الماشية معرفة عملية بالجينات قبل أن يفسر جريجور مندل مبادئ الوراثة بزمن طويل. وحتى عندما يزدهر الغرب من جراء وفرة رأس المال، هل يدرك الناس حقا أصل رأس المال ؟ وإذا لم يدركوا ذلك، فستظل هناك دوما إمكانية لأن يدمر الغرب مصدر قوته. ذلك أن توافر الوضوح بشأن أصل رأس المال، يؤهل الغرب أيضا لحماية نفسه وباقى العالم فور أن يسلم الازدهار الحاضر نفسه لأزمة لا ريب فى أنها ستحل. ومن ثم، فإن السؤال الذى يثور دوما فى الأزمات الدولية سيتردد مرة ثانية : فلوس من هى التى ستستخدم لحل المشكلة ؟

وحتى الآن، كانت البلدان الغربية سعيدة لاعتبار نظامها لإنتاج رأس المال أمرا مسلما به بصورة كلية، وترك تاريخه دون توثيق. لابد من استعادة ذلك التاريخ. وهذا الكتاب محاولة لإعادة استكشاف مصدر رأس المال، ومن ثم تفسير كيفية تصحيح الإخفاق الاقتصادى للبلدان الفقيرة. وهذا الإخفاق لا يرتبط بعيوب فى الثقافة أو الميراث الخاص بالوراثة. هل يقول أحد بوجود عموميات " ثقافية " مشتركة بين أهل أمريكا اللاتينية والروس ؟ ومع ذلك، ففى العقد الأخير، ومنذ أن بدأت المنطقتان فى بناء الرأسمالية بدون رأس مال، تشاركتا فى نفس المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية : عدم مساواة صارخ، اقتصادات سرية، تفشى المافيا، عدم الاستقرار السياسى، هروب رأس المال، عدم احترام القانون على نحو فاضح. ولا ترجع هذه الاضطرابات بأصولها إلى أديرة الكنيسة الأرثوذوكسية أو تمتد على مسارات حضارة الإنكا.

ولكن لم تعان بلدان العالم الثالث والبلدان الشيوعية السابقة وحدها من كل هذه المشكلات. إذ كان الأمر نفسه يصدق على الولايات المتحدة فى 1783، عندما اشتكى الرئيس جورج واشنطن من أن " اللصوص … يقشدون ويستحوذون على زبدة البلاد على حساب الكثرة ". وكان هؤلاء " الصوص " هم واضعى اليد وصغار منظمى المشروعات التى لا تتمتع بحماية القانون الذين يحتلون أرضا لا يملكونها. وخلال المائة عام التالية، قاتل واضعو اليد هؤلاء للحصول على حقوق قانونية فى أراضيهم، وحارب المشتغلون بالتعدين من أجل حقوقهم المدعى بها؛ لأن قوانين الملكية كانت تختلف من مدينة لأخرى، ومن مخيم إلى مخيم. وخلق إنفاذ حقوق الملكية مستنقعا للقلاقل والعداوات الاجتماعية فى كافة أرجاء الولايات المتحدة الفتية، لدرجة أن قاضى قضاة المحكمة العليا، جوزيف ستورى، تساءل فى 1820 عما إذا كان رجال القانون سيستطيعون تسويتها فى أى وقت.

هل يبدو واضعوا اليد واللصوص وعدم الاحترام الصارخ للقانون أمرا مألوفا ؟ لقد طفق الأمريكيون والأوروبيون يخبرون بلدان العالم الأخرى أنه " ينبغى لكم أن تكونوا أكثر شبها بنا " والواقع أنها تشبه كثيرا جدا الولايات المتحدة منذ قرن مضى عندما كانت هى أيضا بلدا غير متطور. لقد واجه السياسيون الغربيون ذات مرة نفس التحديات المثيرة التى يواجهها اليوم قادة البلدان النامية والبلدان الشيوعية السابقة. لكن خلفاءهم فقدوا الصلة بالأيام التى كان فيها الرواد الذين فتحوا الغرب الأمريكى يعانون نقصا فى رأس المال لأنهم نادرا ما كانوا يحوزون حقوق الملكية للأراضى التى استوطنوها، والسلع التى امتلكوها، عندما كان آدم سميث يتسوق فى الأسواق السوداء، وكان أولاد الشوارع الإنجليز الصغار والفقراء يحتالون للحصول على ما يلقى به إليهم السياح الضاحكون من بنسات فى أوحال ضفتى التيمس، عندما أعدم تكنوقراطيو جان بابتيست كولبير 16 ألفا من أصحاب المشروعات الصغيرة التى تمثلت كل جريمتهم فى صناعة واستيراد الأقمشة القطنية، فى انتهاك للقوانين الصناعية لفرنسا.

إن ذلك الماضى هو حاضر كثير من الدول. لقد أدمجت الدول الغربية فقراءها فى اقتصاداتها بنجاح بدرجة جعلتها تفقد حتى ذاكرتها عن كيف تحقق ذلك، وكيف بدأ خلق رأس المال ومتى بدأ، عندما " كان شىء هائل يحدث فى المجتمع والثقافة، ويطلق الطاقات والطموحات لدى الناس العاديين مثلما لم يحدث أبدا فى التاريخ الأمريكى " (1) ، مثلما كتب المؤرخ الأمريكى جوردون وود. وكان " الشىء الهائل " هو أن الأمريكيين والأوروبيين كانوا على شفا إنشاء قانون رسمى واسع الانتشار للملكية، واختراع عملية التحويل فى ذلك القانون التى سمحت لهم بخلق رأس المال. كانت هذه هى اللحظة التى عبر فيها الغرب الخط الفاصل الذى افضى بقيام رأسمالية ناجحة ـ عندما كفت عن أن تكون ناديا خاصا، وأصبحت ثقافة شعبية، عندما تحول " لصوص " جورج واشنطن المروعين إلى رواد محبوبين تفخر بهم الثقافة الأمريكية حاليا .

والمفارقة واضحة بقدر ما هى غير قابلة للحل : فرأس المال، وهو أهم مكونات التقدم الاقتصادى الغربى، هو المكون الذى حظى بأقل قدر من الاهتمام. وقد غلفه الإهمال بالأسرار ـ فى الواقع، بسلسلة من خمسة أسرار. سر المعلومات الغائبة

ركزت المنظمات الخيرية على بؤس وانعدام حيلة فقراء العالم إلى الحد الذى لم يجعل أحدا يوثق على نحو ملائم قدرتهم على مراكمة الأصول. وخلال السنوات الخمس الماضية، أغلقت أنا ومائة من الزملاء من ستة بلدان مختلفة كتبنا وفتحنا أعيننا ـ وخرجنا إلى الشوارع والأرياف فى أربع قارات لنحسب قدر ما ادخرته أفقر قطاعات المجتمع. وكانت المقادير هائلة، لكن معظمها كان رأسمالا ميتا غير منتج. سر رأس المال

 

ذلك هو السر الرئيسى وحجر الزاوية فى هذا الكتاب. إن رأس المال موضوع أغوى المفكرين فى القرون الثلاثة الماضية. فقد قال ماركس إنك تحتاج إلى المضى لما وراء الماديات لتلمس " الدجاجة التى تبيض البيضات الذهبية "، وكان آدم سميث يعتقد أنه يتعين عليك أن تخلق " نوعا من طريق العربات عبر الهواء " لتصل إلى نفس الدجاجة. ولكن لم يخبرنا أحد أين تختبئ الدجاجة. ما هو رأس المال، كيف يتم إنتاجه، وكيف يرتبط بالنقود ؟ سر الوعى السياسى

إذا كان هناك هذا القدر الكبير من رأس المال غير المنتج فى العالم، وفى أيدى مثل هذا العدد الكبير من الفقراء، فلماذا لم تحاول الحكومات استغلال هذه الثروة المحتملة ؟ إن ذلك يرجع ببساطة إلى أن الأدلة التى تحتاجها لم تصبح متوافرة إلا فى الأربعين عاما الماضية، حيث انتقل المليارات من الناس فى كل أنحاء العالم من الحياة المنظمة على نطاق ضيق إلى الحياة المنظمة على نطاق واسع. وسرعان ما أدت هذه الهجرة إلى المدن إلى تقسيم العمل، وأفرخت ثورة صناعية ـ تجارية ضخمة فى البلدان الأكثر فقرا ـ ثورة تم تجاهلها فعليا على نحو لا يصدق. الدروس الغائبة للتاريخ الأمريكى

إن ما يجرى فى بلدان العالم الثالث والبلدان الشيوعية السابقة، حدث من قبل فى أوروبا وأمريكا الشمالية. وللأسف، فقد نومنا مغناطيسيا فشل مثل هذا العدد الكبير من البلدان فى تحقيق الانتقال للرأسمالية لدرجة أنستنا كيف نجحت البلدان الرأسمالية فى تحقيق ذلك عمليا. لقد ظللت سنوات طوال، التقى بالتكنوقراطيين والسياسيين فى البلدان المتقدمة، من آلاسكا إلى طوكيو، لكن لم تكن لديهم إجابة لقد كان ذلك سرا. وأخيرا، وجدت الإجابة فى كتب التاريخ الخاصة بهم، وأكثرها صلة بالموضوع تاريخ الولايات المتحدة. سر الإخفاق القانونى : لماذا لا يجدى قانون الملكية خارج الغرب

منذ القرن التاسع عشر، أخذت الدول تنسخ وتقلد قوانين الغرب لتوفر لمواطنيها الإطار المؤسسى اللازم لإنتاج الثروة. وما زالت تنسخ وتقلد مثل هذه القوانين حتى الآن، ومن الواضح أن ذلك لا يجدى. فلا يزال معظم المواطنين غير قادرين على استخدام القانون لتحويل المدخرات لرأس مال. ويظل السبب فى ذلك، وما هو مطلوب لجعل القانون يجدى سرا.

إن حل كل من هذه الأسرار هو موضوع فصل فى هذا الكتاب.

لقد حان الوقت لحل مشكلة السبب فى أن الرأسمالية انتصرت فى الغرب وجمدت عمليا فى كل مكان غيره. وحيث إن كل البدائل المعقولة للرأسمالية قد تبددت حاليا، فقد أصبحنا فى النهاية فى وضع يطوع لنا دراسة رأس المال بتجرد وحرص.

NOTES:

1 Gordon S. Wood, "Inventing American Capitalism," New York Review of Books, 9 June 1994, p. 49

Taken from "The Mystery of Capital: Why Capitalism Triumphs in the West and Fails Everywhere Else", by Hernando de Soto

Copyright © 2000 Hernando de Soto.  All rights reserved

Egypt : Al haram, April 2002

 

The Mystery of Capital: Chapter 3

 

Syria 2010    Egypt
Syria 2010   Egypt: Al Ahram 2002
Contact Us
P.O. Box 18-1420  
(511) 222-5566